ويلاحظ أن المعداوي كان ينطلق في قراءاته من رؤية شاعر محنك في مجال شعر التفعيلة، ومن تصور أستاذ جامعي له ممارسة طويلة في مجال تدريس الآداب و فقه اللغة وعلومها واستيعاب علم العروض والقافية استيعابا جيدا؛ وكل هذا أهله ليكون من أهم الشعراء النقاد العرب الذين تناولوا شعر الحداثة أو شعر التفعيلة بالدرس والتمحيص إلى جانب مجموعة من الشعراء النقاد نذكر منهم: أدونيس ومحمد بنيس وإلياس خوري وعبد الله راجع على سبيل التمثيل.
وسنركز في هذه الدراسة على كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" لمدارسته ونقده مضمونا وشكلا ومنهجا وتصورا.
أ- من هو أحمد المعداوي؟
ولد أحمد المعداوي سنة 1936م بالدار البيضاء، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية بين الدار البيضاء والرباط،. وحصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، كما نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1971م تحت إشراف الدكتور أمجد الطرابلسي، وكان موضوع الرسالة هو:" حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة( 1947-1967م)"، كما حضّر دكتوراه الدولة حول أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، ونوقشت الأطروحة كذلك بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
هذا، وقد مارس أحمد المعداوي الملقب بأحمد المجاطي كتابة الشعر والنقد، كما امتهن التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس منذ 1964م ، و بعد ذلك انتقل للتدريس بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط،، وكان من المؤسسين الأوائل لحركة الحداثة في الشعر بالمغرب، وقد فاز بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الإسباني/ العربي للثقافة بمدريد لأحسن ديوان بالعربية والإسبانية لعام 1985م على ديوانه الشعري" الفروسية" . كما فاز بجائزة المغرب الكبرى للشعر سنة 1987م، وانتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط منذ 1991م، وكان عضوا بارزا في تحرير مجلة" أقلام" المغربية التي كان يترأسها كل من عبد الرحمن بن عمرو وأحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، ومثل المغرب في مهرجانات عربية عدة.
وقد كتب المجاطي عدة مقالات وقصائد شعرية كانت تنشر بعدة صحف وملاحق ثقافية كجريدة "العلم"، وجريدة "المحرر"، وجريدة "الأهداف" المغربية، ومجلة "آفاق"، ومجلة" المعرفة" و"الثورة العراقية " و"أنفاس" و"دعوة الحق"، ومجلة " شروق"، ومجلة " الآداب" اللبنانية...
وبدأ أحمد المعداوي كتابة الشعر منذ الخمسينيات من القرن العشرين عندما كان طالبا بالثانوي، فكتب قصائد شعرية عمودية وقصائد رومانسية تأثر فيها بشعراء الديوان وأپولو وشعراء المهجر لينتقل بعد ذلك إلى كتابة الشعر المعاصر مع مجموعة من الشعراء المغاربة الذين سيصبحون في فترة الستينيات هم المؤسسون الحقيقيون لشعر التفعيلة في المغرب وهم: محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني وعبد الرفيع الجواهري وأحمد الجوماري وبنسالم الدمناتي وأحمد صبري وعبد الإله كنون ومحمد الخمار الكنوني ومحمد .ع.الهواري. وقد سماهم محمد بنيس في كتابه" ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" بشعراء السقوط والانتظار"، بينما سيسمي تابعه عبد الله راجع شعراء السبعينيات بشعراء المواجهة والتأسيس أو شعراء الشهادة والاستشهاد.
و توفي أحمد المجاطي سنة 1995م بعد سنوات زاهرة بالعطاء التربوي والبيداغوجي ،ومزدانة بالعمل والاجتهاد والإبداع والكتابة والنقد.
ب- بنية كتاب" ظاهرة الشعر الحديث":
يحوي كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" 171 صفحة من الحجم المتوسط بمقاس20.5 سم في13.5 سم، ويضم كذلك قسمين رئيسيين: القسم الأول بعنوان: نحو مضمون ذاتي، والقسم الذاتي بعنوان: نحو شكل جديد. أما عدد الفصول فهي أربعة، وهي:
الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث؛
الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع؛
الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت؛
الفصل الرابع: الشكل الجديد.
ويلاحظ أن الكتاب تلخيص وتمطيط لما قدمه أحمد المعداوي في رسالته الجامعية المعنونة "حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة( 1947-1967م)"، وما كتبه في أطروحته الجامعية عن "أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، ولاسيما الفصل الثالث منه والذي الذي سماه بالرسالة الشعرية. ويعني هذا أن الكتاب ماهو إلا توفيق بين أطروحاته الواردة في رسالته الجامعية وأطروحته التي أعدها لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث.
5- مضــــامين الكتــــــــــاب:
القسم الأول: نحــــو مضمــــون ذاتـــــي
الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث
الشعر العربي القديم:
يخضع التطور في الشعر العربي – حسب أحمد المعداوي- إلى أمرين مهمين، وهما: الحرية والاحتكاك بالثقافة الأجنبية. ولم يتحقق هذا التطور في الشعر القديم إلا جزئيا في العصر العباسي مع مجموعة من الشعراء الذين رفعوا لواء الحداثة الشعرية وراية التحول وهؤلاء هم: أبو نواس وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء المعري، كما تحقق هذا التطور فنيا في شعر الموشحات الأندلسية على مستوى الإيقاع العروضي.
وعلى الرغم من ذلك ، فقد بقي هذا التجديد ضئيلا بسبب هيمنة معايير القصيدة العمودية التي كان يدافع عنها نقاد اللغة. وفي هذا الصدد يقول أحمد المجاطي:" غير أنه لابد من القول بأن الشاعر العربي لم يكن يتمتع من الحرية بالقدر المناسب، ذلك أن النقد العربي قد ولد بين يدي علماء اللغة، وأن هؤلاء كانوا أميل إلى تقديس الشعر الجاهلي، وأن المحاولات التجديدية التي اضطلع بها الشعراء في العصر العباسي، لم تسلم من التأثر بتشدد النقد المحافظ. لا، بل إن هذا النقد هو الذي حدد موضوع المعركة، واختار ميدانها، منذ نادى بالتقيد بنهج القصيدة القديمة، وبعدم الخروج عن عمود الشعر، فأصبح التجديد بذلك محصورا في التمرد على هذين الشرطين، وفي ذلك تضييق لمجال التطور والتجديد في الشعر العربي."
ومن هنا، يتبين لنا أن الشعر العربي القديم، لم يحقق تطورا ملحوظا بسبب انعدام الحرية الإبداعية وقلة الاحتكاك بالآداب الأجنبية؛ مما جعل الثبات أوالمحافظة على الأصول هو المهيمن على الشعر العربي القديم ونقده بالقياس مع خاصة التجديد و التحول والتطور.
التيـــــار الإحيـــــائي:
يقوم التيار الإحيائي في شعرنا العربي الحديث على محاكاة الأقدمين وبعث التراث الشعري القديم وإحياء الشعر العباسي والشعر الأندلسي لتجاوز ركود عصر الانحطاط ومخلفات كساد شعره عن طريق العودة إلى الماضي الشعري الزاهر لنفض الغبار عليه من أجل الخروج من الأزمة الشعرية التي عاشها شعراء عصر النهضة.
ومن أهم الشعراء الذين تزعموا هذا التيار محمود سامي البارودي الذي عاش على أنقاض الماضي والتوسل بالبيان الشعري القديم؛ مما جعل هذه الحركة الشعرية حركة تقليدية محافظة بسبب مجاراتها لطرائق التعبير عند الشعراء القدامى. ومن ثم، فقد كانت العودة إلى التراث الشعري أهم مرتكز يقوم عليه هذا التيار، وبذلك فقد أهمل التعبير عن الذات ورصد الواقع، ولم يحقق تطورا حسب الكاتب بسبب انعدام الحرية الإبداعية و انعدام التأثر الحقيقي بالثقافة الأجنبية.
التيــــار الــــذاتي:
• جماعـــة الديــــوان:
لم يظهر التيار الذاتي الوجداني إلا مع جماعة الديوان( عباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، وعبد القادر المازني)، وجماعة أپولو( أحمد زكي أبو شادي، وأحمد رامي ،وأبو القاسم الشابي، ومحمود حسن إسماعيل ، و عبد المعطي الهمشري، والصيرفي، وعلي محمود طه، وعلي الشرنوبي، ومحمود أبو الوفا، وعبد العزيز عتيق...)، والرابطة القلمية في المهجر( إيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي...) في أواخر العقد الأول من القرن العشرين لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
وإذا بدأنا بمدرسة الديوان ، فإن أصحابها يربطون الشعر بالذات والوجدان مع اختلافات طفيفة بين الشعراء، فالشعر عند العقاد هو المزج بين الشعور والفكر الذهني، وإن كان العقاد يرجح كفة ماهو فكري وعقلي على ماهو وجداني شعوري كما يتجلى ذلك في قصيدته الشعرية " الحبيب" التي غلب فيها المنطق العقلي على ماهو جواني داخلي؛وهذا ماجعل صلاح عبد الصبور يعتبر العقاد مفكرا قبل أن يكون شاعرا.
أما عبد الرحمن شكري فقد تأمل في أعماق الذات تأملا يتجاوز في غايته حدود الاستجابة للواقع، مستهدفا الوقوف بالشاعر أمام نفسه في أبعادها المختلفة من شعورية ولاشعورية ( شعر الاستبطان واستكناه أغوار الذات).
بينما الشعر عند عبد القادر المازني هو كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات وخاصة الإحساس بالألم. ولعل" في هذا الاطمئنان إلى الألم، مايفسر تحول المازني من الشعر إلى النثر، ومن معاناة الألم والضيق باليأس، إلى اعتناق مذهب السخرية من الناس ومن الحياة والموت جميعا."
ويتسم الشعر الذاتي عند جماعة الديوان بالتميز والتفرد والتغني بشعر الشخصية. ويعود الاهتمام بالذاتية عند شعراء هذه المدرسة لسببين يتمثلان أولا: في إعادة الاعتبار للذات المصرية، وثانيا: انتشار الفكر الحر بين المثقفين والمبدعين المصريين.
وعلى الرغم من ذلك، فهذا التيار حسب أحمد المعداوي تيار شعري سلبي ليس إلا؛ لأنه بقي أسير الذات ولم يتجاوزها إلى تغيير الواقع:" والحق أن إيمان شعراء هذه الجماعة بقيمة العنصر الذاتي، قد استمد أصوله من أمرين اثنين: أحدهما أن شخصية الفرد المصري كانت تعاني من انهيار تام على مختلف المستويات، وأن طبيعة الفترة التاريخية كانت تتطلب منه أن يعيد الاعتبار إلى ذاته، والآخر تشبعهم بالفكر الحر، الذي بسط ظله على العقل العربي، في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية. ولقد أتاح لهم ذلك التتبع أن يعبروا عن أنفسهم بوصفها قيما إنسانية لها وزنها، وأن يكفوا عن محاولة توكيد الذات بمحاكاة النماذج السابقة، ولكنه لم يتح لهم أن يذهبوا برسالتهم الشعرية إلى أبعد من ذلك، فيرتفعوا إلى مستوى الشعار الذي طرحته المرحلة، وهدفت من ورائه إلى وعي الذات لنفسها ولظروفها، وإلى التأهب لخوض المعركة، بغية تغيير تلك الظروف التي منعت المجتمع العربي من التحول وبناء الغد الأفضل، وهذا هو السر في أن أثر الوجدان في شعر هذه الجماعة كان أثرا سلبيا، يؤثر هدوء الحزن وظلمة التشاؤم على ابتسامة الأمل واستشراف النصر، فحفر بذلك أول قناة مظلمة في طريق الاتجاه الرومانسي الذي أعقب هذا التيار وورث معظم خصائصه التجديدية".
وبعد أن قوّم أحمد المعداوي الشعر الإحيائي وشعر جماعة الديوان تقويما سلبيا يسبب انتقاده للذاكرة التراثية و الذاتية المثالية الباكية، انتقل إلى تقويم أدب المهجر الشمالي دون الجنوبي الذي كان يحف شعراؤه حول العصبة الأندلسية.
• تيار الرابطة القلمية:
توسع مفهوم الوجدان عند شعراء الرابطة القلمية ( جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي)، ليشمل الحياة والكون في إطار وحدة الوجود الصوفية، فاختلط الوجدان بالذات والهجرة والغربة والوحدة.
ولئن كان جبران قد آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة، فإن نعيمة انقطع إلى التأمل في نفسه، إيمانا منه بأن ملكوت الله في داخل الإنسان". أما أبو ماضي فقد استعصم بالخيال والقناعة والرضى بالله والفرار من الحضارة المعقدة إلى القفر أو إلى الغاب الطوباوي المثالي كما فعل من قبله جبران ونعيمة أو عاد إلى نفسه ليتسامى جوانيا وروحانيا.
ومن المعروف أن شعر الرابطة القلمية قد عايش المد القومي، ثم تأثر تأثرا كبيرا بالآداب الأجنبية، إلا أنه ظل حبيس الذات والمضامين السلبية كاليأس والألم والخنوع والقناعة والاستسلام . بيد أن هذه المضامين بعيدة عن حقيقة الوعي القومي الذي يستلزم الأفعال الإيجابية والتغيير الثوري والممارسة العملية وترجمة المشاعر إلى الواقع الفعلي.
• جماعــــة أپــــولو:
تأسست هذه الجماعة الشعرية في مصر سنة 1932م مع الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وتستند في مفهومها للشعر إلى التغني بالذات والوجدان، والتطرق إلى المواضيع الاجتماعية والقومية دون نسيان الشعراء لهمومهم الذاتية ولواعجهم المتقدة وصراعهم التراجيدي مع الحياة من شدة اليأس والألم والحزن.
وتمتاز معاني شعراء أپولو حسب أحمد المعداوي بالسلبية بسبب تعاطي شعراء الجماعة مع مواضيع الطبيعة والهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة، والفرار من المدينة حيال الغاب أو الريف ،وترنح الشعر بكؤوس الحرمان والخيبة واليأس والمرارة ، والمعاناة من الاغتراب الذاتي والمكاني كما في قصيدة" خمسة وعشرون عاما" لعلي الشرنوبي.
غير أن القضاء لم يستجب لهم جميعا،" فينهي آلامهم بتجربة الموت، فقد مات الشابي والشرنوبي والهمشري وهم صغار، وبقي غيرهم من شعراء هذه الجماعة، يعزفون على الأوتار نفسها، حتى بليت ورثت ولم تعد تضيف جديدا، ذلك أنهم قد رفضوا أن يفتحوا أنفسهم للحياة المتجددة، وآثروا على ذلك حبس مواهبهم، في دائرة التجربة الذاتية الضيقة، ثم خلف من بعدهم خلف اقتفى آثارهم، ونسج على منوالهم، فتشابهت التجارب، وكثر الاجترار، وقلت فرص الجدة والطرافة، حتى صح فيهم قول الناقد محمد النويهي:" قد أغرقوا في شعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار معظم حلاوته، وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض"
وانتهت جماعة أپولو بالانفصال وتمزق الجماعة وهجرة بعضهم الحياة العامة كأحمد زكي أبو شادي الذي سبقه إلى ذلك" ناجي إلى ماوراء الغمام، وسبقه علي محمود طه إلى ماوراء البحار مع الملاح التائه، وسبقه محمود أبو الوفا إلى معاناة أنفاس محترقة وامتدت عمليات التخلي والانفصال بعد ذلك عند الصيرفي في الألحان الضائعة، حتى وصلت إلى آخر دواوين محمود حسن إسماعيل أين المفر؟ وتعددت الاتجاهات التي تختلف في تفاصيلها، ولكنها تلتقي عند انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه"
بيد أن أحمد المعداوي يتناسى القصائد الواقعية والقومية والوطنية التي دبجها شعراء أپولو في استنهاض همم الشعب كما فعل أبو القاسم الشابي في قصيدته الرائعة " إرادة الحياة" التي مازال الشعب التونسي يتغنى بها إلى يومنا هذا، واتخذت القصيدة نشيدا وطنيا لتونس .
لكن أحمد المعداوي يجيبنا بجواب غير مقنع وغير موضوعي يريد من خلاله أن يمهد لشعر الحداثة الذي كان في رأيه شعرا إيجابيا مرتبطا بالحياة والواقع" نحن لاننكر أن هذه الجماعة شأنها في ذلك كشأن جماعة الديوان وتيار الواقعية وتيار الرابطة القلمية قد خلفت شعرا يتناول القضايا القومية والقضايا الاجتماعية بصفة عامة، ولكننا نرى أن ما يمكن أن يعتد به من شعرهم هو الشعر الوجداني الصرف، أما الشعر الواقعي الاجتماعي، والشعر الواقعي القومي الذي يأخذ الشاعر فيه نفسه بنوع من الفهم العلمي والموضوعي للظروف الاجتماعية والسياسية، فقد قام على أنقاض هذا التيار الذاتي الذي أغرق في الانطواء على هموم الذات الفردية إغراقا تحول في نهاية الأمر إلى مايشبه المرض. نعم لقد انحصر تيار العودة إلى الذات بعد أن استنفد إمكاناته الموضوعية، وتدفق مكانه تيار آخر لم ينكر أهمية الذات إنكارا تاما، بل أراد لهذه الذات أن تفتح نفسها على ماحولها، وأن تقيم وجدان الجماعة مكان وجدان الفرد، ذلك أن المرحلة كانت تتطلب هذا النوع من التآزر بين الفرد والجماعة، وتنفر كل النفور من أية دعوة إلى الانطواء والتفرد والعزلة".
وهكذا، استطاع أحمد المعداوي أن يتخلص من جماعة أپولو كما تخلص سابقا من جماعة الديوان والرابطة القلمية بطريقة غير موضوعية من أجل أن يعطي الصدارة والمشروعية للشعر الحديث باعتباره شعر الثورة والتغيير والممارسة الفعلية.
القسم الثاني: نحـــو شكــــل جديــــد
إذا كانت القصيدة الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة وتقليد النموذج، فإن التيار الوجداني قد استخدم لغة أكثر سهولة ويسرا من لغة القصيدة الإجيائية التي كانت تميل إلى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وبداوة المعجم. بل تستعمل القصيدة الوجدانية لغة الحديث المألوف ولغة الشارع كما عند العقاد في الكثير من قصائده الشعرية ولاسيما قصيدته" أصداء الشارع" الموجودة في ديوانه" عابر سبيل". كما أن الصورة الشعرية البيانية صارت تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي. بينما اقترنت الصورة الشعرية لدى الإحيائيين بالذاكرة التراثية مستقلة عن تجربة القصيدة الذاتية ، وغالبا ما تأتي للتزيين والزخرفة ليس إلا.
و" لقد أراد الشاعر الوجداني أن يجعل للصورة وظيفة أساسية، وأن تكون هذه الوظيفة نابعة من تجربته الذاتية، ومن رؤيته للحياة، عبر تلك التجربة، ولم يعد التدبيج والزخرفة هدفه الأساسي من استخدامها، لا، بل أن هذه الوظيفة أصبحت ذات علاقة بوظائف العناصر الشعرية الأخرى، من أفكار وعواطف وأحاسيس، ومن هذه العلاقة الأخيرة، تنشأ خاصة أخرى من خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية الحديثة، هي خاصة الوحدة العضوية. فكما أراد الشاعر الوجداني أن يربط بين الصورة وبين عواطف الشاعر وأحاسيسه، أراد كذلك أن يربط هذه العواطف والأحاسيس والأفكار ببعضها، ربطا من شأنه أن ينشىء روحا عاما يشيع في أجزاء القصيدة المختلفة، ويظهرها بمظاهر الكائن الحي، لكل عضو من أعضاء الجسد دور هام ومتميز، يحدده مكانه من الجسد."
ومن القصائد الوجدانية التي تتمثل فيها خاصة الوحدة العضوية قصيدة "حكمة الجهل" لعباس محمود العقاد التي يحافظ فيها الشاعر على الرابط العضوي والمنطقي، لذا من الصعب أن يخل الدارس بتسلسل الأبيات تقديما وتأخيرا.
وتبقى هذه الوحدة العضوية موجودة ومرتبطة بالوجدان مهما اختلفت القوافي كما في قصيدة "الخير والشر" لميخائيل نعيمة أو تعددت الأوزان العروضية كما في قصيدة"المجنون" لإيليا أبي ماضي.
هذا، وقد مال الوجدانيون إلى تحقيق بعض الملامح التجديدية في أشعارهم كتنويع القوافي والأوزان، وتشغيل الوحدة العضوية في بناء القصيدة، واستعمال القصائد والمقطوعات المتفرقة، وتليين اللغة وترهيفها وإزالة قداستها البيانية ، وتوظيف القافية المرسلة والمزدوجة والمتراوحة، واللجوء إلى الشعر المرسل. لكن هذا التجديد سيواجهه النقاد المحافظون بالمنع والتقويض كمصطفى صادق الرافعي وطه حسين والعقاد في إحدى مراحله النقدية وإبراهيم أنيس صاحب كتاب " موسيقا الشعر".
وإذا۫، فقد" كانت نهاية هذه التيارات الذاتية محزنة، على صعيدي المضمون والشكل، أما المضمون فلأنه انحدر، كما لاحظنا في القسم الأول من هذا الكتاب، على مستوى البكاء والأنين والتفجع والشكوى، وهي معان ممعنة في الضعف تفصح بوضوح عما وراءها من مرض وتهافت وخذلان. أما الشكل فلأنه فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة، ومميزات مكتملة ناضجة، وكان فشله تحت ضربات النقد المحافظ، الذي استمد قوته مما كان الوجود العربي التقليدي يتمتع به من تماسك ومنعة، قبل كارثة فلسطين. فلما تحقق النصر للكيان الصهيوني المصطنع، وعجز الوجود العربي التقليدي بكل ما أوتي من قوة عن رد الخطر الذي يتهدد الأمة، سقط ذلك الوجود، وكان سقوطه على كافة المستويات، السياسية والاجتماعية والثقافية، وأتيح بذلك للشاعر والناقد والمفكر أن يمارسوا قدرا من الحرية لم تكن ممارسته متاحة لهم من قبل في عالمنا العربي.".
وهكذا، يحكم أحمد المعداوي على التيار الذاتي بأنه لم يأت بجديد يذكر على مستوى المضمون والشكل معا على الرغم من بعض المحاولات التجديدية ؛ لأنه بقي أسير النغمات الحزينة والمحاولات التجديدية المحتشمة التي كانت تهاب أنياب النقد العربي المحافظ.
الفصل الثاني: تجربة الغربة والضياع
لم يظهر الشعر العربي الحديث أو مايسمى بشعر التفعيلة إلا بعد نكبة 1948م ، وتعاقب مجموعة من النكسات والهزائم المتوالية وخاصة هزيمة 1967م. وقد تأثر هذا الشعر الجديد بالمد القومي وانهيار الواقع العربي الفظ الذي زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين، وأسقط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة.
كما كان للاحتكاك بالثقافة الأجنبية دور كبير في انفتاح هذا الشعر على كل ماهو مستحدث في الخارج لتجديد آليات الكتابة والتعبير بله عن التسلح بمجموعة من المعارف والعلوم للسمو بهذا الشعر كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، واستيعاب الروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية والحرانية(الصابئة)، والتأثر بأشعار الجامي وجلال الدين الرومي وفريد العطار والخيام وطاغور فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية والتفاعل مع أشعار أودن وبابلو نيرودا و وپول إيلوار و لويس أراگون و گارسيا لوركا وماياكوفسكي وناظم حكمت والاستعانة بقصص كافكا وأشعار ريلكه وإليوت مع الانفتاح على الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد و كتاب ألف ليلة وليلة و سيرتي : سيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي ، والتعمق في القرآن الكريم، وقراءة الحديث النبوي الشريف، والتجوال الدائم في الشعر العربي القديم.
وصار الشعر وسيلة لاكتشاف الإنسان والعالم، كما كان فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى، وبدأ الشاعر يحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون والوجود والقيم والمعرفة. بل أصبح الشعر الحديث أداة لتفسير العالم وتغييره.
ولا يعرف الشاعر الحديث معنى الاستقرار فهو كثير التنقل تناصيا وكثير الترحال معرفيا، فقد" طوف مع يوليس في المجهول، ومع فاوست ضحى بروحه ليفتدي المعرفة، ثم انتهى إلى اليأس من العلم في هذا العصر، تنكر له مع هكسلي ،فأبحر إلى ضفاف الكنج، منبت التصرف، لم ير غير طين ميت هناك، وطين ميت هنا، طين بطين، ولا تقف رحلة الشاعر الحديث عند حدود الزمان والمكان والتاريخ والحضارة، فقد حمل صليبه مع المسيح، وحمل صخرته مع سيزيف، وعاقر الأتراح والآلام مع كلكمش في رحلته الطويلة بحثا عن شجرة الخلود، ومع الحلاج في مأساته بين البوح والكتمان، ورهن المحبسين مع أبي العلاء، قرأ اسمه على شاهد قبره، وقرأه على الآجر المشوي في أطلال نينوى، وعلى الصوامع المهدمة في أحياء نيسابور، حتى إذا أعياه الضرب في الأرض، ألقى عصاه في انتظار الذي يأتي ولا يأتي".
ومن ناحية أخرى، أصبح الشكل الشعري الجديد يعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة، بعد أن أفرزته مجموعة من النكبات والنكسات والهزائم. ومن هنا، فقد استوى الشكل الشعري الجديد مع مجموعة من الشعراء المحدثين كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي...
ومن الموضوعات التي نصادفها بكثرة في شعرنا العربي الحديث نلفي تجربة الضياع والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية تأثرا بشعر توماس إليوت صاحب القصيدة الشهيرة" الأرض الخراب"، فنموذج الآفاق عند الوهاب البياتي " ليس سوى رمز للإنسان الضائع الذي اضمحل وجوده في الحضارة الأوربية كما يتصوره إليوت"، وتأثرا أيضا بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين خاصة الروايات والمسرحيات الوجودية التي ترجمت إلى اللغة العربية، ودراسة كولن ويلسن عن" اللامنتمي"، علاوة على عامل المعرفة، وكل هذا جعل الشاعر الحديث يعاني من الملل والسأم والضجر واللامبالاة والقلق، وبدأ يعزف أنغاما حزينة تترجم سيمفونية الضياع والتيه والاغتراب والانهيار النفسي والتآكل الذاتي والذوبان الوجودي بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع العربي بسبب قيمه الزائفة وهزائمه المتكررة.
وتحضر هذه النغمة التراجيدية في أشعار أدونيس في قصيدة "الرأس والنهر " من ديوان " المسرح والمرايا"، وعند عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور في قصيدته "مذكرات الصوفي بشر الحافي" من ديوان "أحلام الفارس القديم"، و لدى عبد المعطي حجازي.
وتتنوع الغربة في أشعار المحدثين لتشمل الغربة في الكون، والغربة في المدينة، والغربة في الحب، والغربة في الكلمة.
وتعني الغربة في الكون ميل الشاعر إلى الشك في الحقائق والميل إلى التفلسف الأنطولوجي ( الوجودي)، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، والدافع إلى ذلك أن الشاعر يحس بالعبث والقلق والمرارة المظلمة كما نجد ذلك في نصوص صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال.
أما الغربة في المدينة، فتتجلى في تبرم الشاعر الحساس من المكان المديني الذي حول الإنسان إلى مادة محنطة بالقيم المصطنعة الزائفة، وهذا المكان المخيف هو المدينة العربية المعاصرة التي علبت الإنسان وشيأته، وأضحت بدون قلب أو بدون روح، فالقاهرة بدون قلب عند عبد المعطي حجازي، ونفس الشيء يقال عن بغداد السياب وبيروت أدونيس وخليل حاوي. وتتخذ المدينة في شعر هؤلاء قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وتمثل وجه الحضارة بكل أبعادها الذاتية والموضوعية.
وعليه، فقد صور الشعر الحديث المدينة في ثوبها المادي كما عند الحجازي، أو الناس داخل المدينة وهم صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن كما في جل أشعار عبد المعطي حجازي في ديوانه" مدينة بلا قلب".
ويلاحظ أن الشعراء المحدثين لم يستطيعوا الهروب إلى الريف أو إلى عالم الغاب كما فعل الرومانسيون ، بل فكر السياب أن يهرب إلى قريته جيكور في الكثير من جيكورياته، ولكنه وجد أن المدينة تحاصره في أي مكان وتطوقه بأحابيلها المادية الإسمنتية، ولم يجد صلاح عبد الصبور أيضا سوى أن يجسد الخلاص في الموت كما في قصيدة "الخروج".
وإذا كان الشاعر الحديث قد فشل في فهم أسرار الكون ووجوده، وفشل كذلك في التأقلم مع المدينة، فإنه فشل كذلك في الحب الذي أصبح زيفا مصطنعا وبريقا واهما. ومن ثم، تتحول العلاقة بين الزوجين إلى عداوة وقتال كما في قصيدة"الجروح السود" عند خليل حاوي في ديوانه" نهر الرماد"، أو يموت الحب عند عبد المعطي حجازي أو يصاب بالاختناق عند صلاح عبد الصبور.
هذا، و تعيش الكلمة غربتها الذاتية في واقع لايعرف سوى الصدى وخنق الجهر و قتل الكلام الصارخ الذي قد يتحول إلى حجر عند أدونيس في قصيدة "السماء الثامنة" من ديوان " المسرح والمرايا"، وقد يلتجئ الشاعر إلى الصمت كما عند البياتي في قصيدة " إلى أسماء" من ديوان " سفر الفقر والثورة". ومن هنا، فالغربة في الكلمة، أو في المدينة، او في الحب، " ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه، يمكن تصورها لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة"
ويلاحظ أن هناك من الشعراء المحدثين من وقف عند لون واحد من الغربة، وهناك من مزج بين لونين ، وهناك من تحدث عن الألوان الثلاثة للغربة، وهناك من جمع بين الأربعة في وحدة شعرية منصهرة:" تلك الوحدة سوغت له أن يمزج في بعض الأحيان، بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، على نحو ما فعل إبراهيم أبو سنة حين مزج بين الغربة في الحب والغربة في المدينة، في قصيدة له بعنوان " في الطريق". وعلى نحو ما نجد عند صلاح عبد الصبور، الذي يمزج بين الغربة في المدينة، والغربة في الكلمة في قصيدة" أغنية للشتاء". وقد يمضي بعض الشعراء بعيدا، فيمزج في قصيدة واحدة بين ألوان مختلفة تتعدى ما سبقت الإشارة إليه من ألوان الغربة ، كما هو الشأن في قصيدة" فارس النحاس" لعبد الوهاب البياتي" ، التي جسدت الغربة في المكان والغربة في الزمان والغربة في المدينة والغربة في العجز. وهذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموت والغربة في الصمت. وهذه النظرة الشمولية للغربة تنطبق أيضا على قصيدة يوسف الخال" الدارة السوداء".
وقد تتداخل تجربة الضياع والغربة في قصائد الشعراء المحدثين مع تجربة اليقظة والأمل. وإنه:" من المفيد أن نشير بصفة عامة، إلى أن إيقاع التجدد والبعث والأمل بلغ أوجه في الارتفاع والتألق، في الفترة الواقعة بين تأميم القناة، وبين واقعة الانفصال بين مصر وسورية. على حين بدأ إيقاع اليأس يسود بعد هذه الحادثة الأخيرة، وأن نشير بصفة خاصة، إلى أن استجابة الشاعر للإيقاع السائد في المرحلة ، لاتكون استجابة مطلقة".
وسبب هذا الضياع عند الشعراء المحدثين هو تأثرهم بالأدب الوجودي كما عند سارتر وألبير كامو، ومن الشعراء الذين تغنوا بالسأم الوجودي والقلق والاغتراب والضياع نستحضر كلا من صلاح عبد الصبور في قصيدة "الظل والصليب " من ديوان" أقول لكم" ، وكما حصل في بعض قصائد عبد الباسط الصوفي من ديوانه" أبيات ريفية" كقصيدة" قصيدة ومقهى"، وقصيدة" أحزان قديمة"، وقصيدة " تثاؤب".
وقد دفع هذا اليأس وهذا الضياع عند الشعراء المحدثين بعض النقاد( حسين مروة، وجلال العشري، ومحمود أمين العالم، وفاروق خورشيد) إلى اتهام هذا الشعر الجديد بالسلبية والنكوص والضعف والاستسلام والميل إلى الذاتية الباكية على غرار الرومانسيين الوجدانيين. بيد أن أحمد المجاطي يدافع عن هذه التجربة بقوله:"إن هذه النغمة المستوردة هي التي حملت بعض النقاد على اتخاذ مواقف متحفظة من تجربة الغربة كلها، ولاشك أن موقفهم هذا، ناتج قبل ذلك من الخلط بين ماهو أصيل من تلك التجربة، وبين ماهو غير أصيل، وإن الخوف المبالغ فيه من كل مايمت بصلة إلى الحزن والضياع والتمزق، كأن الحياة نزهة مترفة، لامكان فيها للخوف، والتردد، والرعب، وكأن الشعر لايملك أن يكون إيجابيا حتى وهو يشق العظام ليؤكد وجود المادة النخاعية" كما يقرر روزينتال". أما الشيء الذي يؤسف له فهو أن موقف هؤلاء الباحثين قد قادهم إلى تجاهل النجاح الذي حققته هذه التجربة، وهو نجاح يرجع إلى أن الهم الذي عانى منه الشاعر الحديث، لم يكن هما فرديا كالهم الذي أغرق تجربة شعراء التيارات الذاتية، في الظلمة والقتامة، واليأس، إنه هم جماعي نابع من تفتت الأرض تحت أقدامنا، ومن ارتفاع أسوار الحديد أمام كل خطوة نخطوها،نابع من قصر عصر الأفراح، التي تبزغ في سمائنا بين الحين والحين، فنحسب أنها الفجر الصادق، حتى إذا فتحنا أذرعنا للقاء المنتظر، تكشف أقنعة الضوء عن أنياب الفزع والموت. إن هذه الغربة هي غربتنا، وكل صوت نرفعه في وجه الشعر حين يشير إليها يجب أن يتحول إلى فعل، وأن يكون هدف ذلك الفعل، الواقع العربي، لامكان للحسرة في نفوسنا وكلماتنا. لا أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن تجربة الغربة، ولكن هدفي هو لفت النظر إليها، وعلى الدور الذي لعبته في تهييء الشاعر الحديث لتجربة أخرى... وهي تجربة الحياة والموت".
بيد أن أحمد المعداوي سيعتبر تجربة الغربة والضياع تجربة سلبية فاشلة وجدت نفسها في طريق مسدود كما أثبت ذلك في كتابه "أزمة الشعر العربي الحديث" في الفصل الثالث المخصص للرسالة الشعرية.
الفصل الثالث: تجربـــة الحيـــاة والمـــوت
لم يكن الشعر العربي الحديث كله شعر يأس وغربة وضياع وقلق وسأم، فهناك أشعار تغنت بالأمل والحياة واليقظة والتجدد والانبعاث او مايسمى عند ريتا عوض بقصيدة الموت والانبعاث التي نجدها حاضرة في أشعار بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي. وسبب هذا الأمل والتجدد في أشعار هؤلاء التموزيين الذين تغنوا بالموت والانبعاث هو ماتم إنجازه واقعيا وسياسيا كثورة مصر و تأميم القناة ورد العدوان الثلاثي واستقلال أقطار العالم العربي والوحدة بين مصر وسوريا إلى غير ذلك من الأحداث الإيجابية التي دفعت الشعراء إلى التغني بالانبعاث واليقظة والتجدد الحضاري. ولم تستقل حقبة الأمل بفترة معينة، بل نراها تتداخل مع فترة إيقاع الغربة والضياع تعاقبا أو تقاطعا.
وقد نجد فكرة التجدد عند الشعراء المهجريين كأقصوصة " رماد الأجيال" و"النار الخالدة" عند جبران خايل جبران، وقصيدة" أوراق الخريف" لميخائيل نعيمة، " غيرأن هذه اللمحات الأدبية والشعرية ، التي تراءت في إنتاج أدباء المهجر الشمالي ، لاتؤلف في واقع الأمر تجربة متماسكة، تضع الإيمان بالتجدد والعبث فوق كل اعتبار،فباستثناء قصيدة " الحائك" لنعيمة، تبقى الحيرة والتردد، وإيثار الحياة الحالمة، هي طابع هذه التجربة العامة". ويعني هذا أن التجدد عند شعراء المهجر مقترن بالتناسخ، بينما التجدد عند الشعراء المحدثين مرتبط بالفداء المسيحي.
وقد استفاد الشاعر الحديث من مجموعة من الأساطير والرموز الدالة على البعث والنهضة واليقظة والتجدد، واستلهمها من الوثنية البابلية واليونانية والفينيقية والعربية، ومن المعتقدات المسيحية ومن التراث العربي والإسلامي ومن الفكر الإنساني عامة. وتجسد هذه الأساطير غالبا صراع الخير والشر، ومن بين هذه الأساطير الموظفة نجد: تموز وعشتار وأورفيوس وطائر الفينيق وصقر قريش والخضر ونادر السود ومهيار والعنقاء والسندباد وعمر الخيام وحبيبته عائشة والحلاج ولعازر والناصري.
ولقد أفرزت هذه الأساطير الرمزية التي وظفها الشاعر المعاصر منهجا نقديا وأدبيا وفلسفيا يسمى بالمنهج الأسطوري" يقدم به الشاعر مشاعره وأفكاره، ومجمل تجربته في صور رمزية، يتم بواسطتها التواصل، لا عن طريق مخاطبة الفكر، كما تفعل الفلسفة والمنطق، بل عن طريق التغلغل إلى اللاشعور، حيث تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة".
ويعد أدونيس من أهم شعراء التجربة التموزية الذين تغنوا بالموت والانبعاث كما في ديوانيه" كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل"، وديوان" المسرح والمرايا". ومن أهم خصائص شعره التي تحدد نظرته إلى أمته على المستوى الحضاري خاصة التحول عبر الحياة والموت، أي إن أدونيس يشخص في أشعاره جدلية الإنسان المتأرجحة بين الحياة والموت، كما في قصائده الشعرية " الرأس والنهر"، و" تيمور ومهيار"، وقصيدة "السماء"، وقد اشتغل أدونيس في شعره كثيرا على أسطورة العنقاء وشخصية مهيار .
أما إذا انتقلنا إلى الشاعر خليل حاوي فقد عبر في دواوينه الثلاثة " نهر الرماد" و"الناي والريح " و" بيادر الجوع" عن مبدإ آخر غير مبدإ التحول عند أدونيس هو مبدأ المعاناة، أي معاناة حقيقية للخراب والدمار، والجفاف والعقم. وقد شغّل في شعره أسطورة تموز وأسطورة العنقاء للدلالة على هذا الخراب الحضاري والتجدد مع العنقاء.
ومن القصائد الدالة على معاناة الحياة والموت قصيدته" بعد الجليد "وقصيدة" السندباد في رحلته الثامنة"، و"حب وجلجلة"، و"البحار والدرويش"، و" ليالي بيروت"، و" نعش السكارى"، و"جحيم بارد"، و" بلا عنوان"، و"الجروح السود"، و" في جوف الحوت" ، و"المجوس في أورپا" و"عودة إلى سدوم"، و"الجسر"، و"عند البصارة" ، و" وجوه السندباد"، ومسرحية"عرس الدم" للوركا، و" سيرة الديك الجن"، و"الكهف"، و"جنية الشاطئ"، و" لعازر عام 1962 م".
ومن جهة أخرى، فقد تناول بدر شاكر السياب في الكثير من قصائده معاني الموت والبعث، وعبر عن طبيعة الفداء في الموت، إذ يعتقد بأن الخلاص لايكون إلا بالموت، إلا بمزيد من الأموات والضحايا كما في قصيدته " النهر والموت" ،وفي قصيدته " قافلة الضياع "، و" رسالة من مقبرة". وقد استخدم السياب رمزا أسطوريا للتعبير عن فكرة الخلاص وهو رمز المسيح كما في قصيدته" المسيح بعد الصلب"، وقصيدة " مدينة السندباد" و"أنشودة المطر".
وتتسم أشعار عبد الوهاب البياتي بجدلية الأمل واليأس كما يظهر ذلك جليا في ديوانه" الذي يأتي ولايأتي". ويلاحظ الدارس أن هناك ثلاث منحنيات في جدلية الأمل واليأس في أشعار عبد الوهاب البياتي:
" في المنحنى الأول، انتصار ساحق للحياة على الموت، وتمثله الأعمال الشعرية السابقة على" الذي يأتي ولايأتي"، ولاسيما " كلمات لاتموت"، و" النار والكلمات" و" سفر الفقر والثورة".
في المنحنى الثاني تتكافأ الكفتان، ويمثله ديوان" الذي يأتي ولايأتي".
أما المنحنى الأخير، فيتم فيه انتصار الموت على الحياة، ويمثله ديوان" الموت في الحياة""
هذا، و قد جسد عبد الوهاب البياتي في دواوينه الشعرية حقيقة البعث من خلال الخطوط الأربعة الهامة لمضمون ديوانه" الذي يأتي ولايأتي" كخط الحياة وخط الموت، وخط السؤال، وخط الرجاء، وكل هذا يرد في جدلية منحنى الأمل ومنحنى الشك.
وبعد، لقد أصبح الشاعر الحديث شاعرا يجمع بين هموم الذات وهموم الجماعة ، يروم كشف الواقع واستشراف المستقبل متنقلا من التفسير إلى التغيير. وبمعنى آخر،" لقد أصبح وعي الشاعر بالذات وبالزمن وبالكون مرتبطا بوعيه بالجماعة، ومتضمنا له. وماكان لشيء من ذلك أن يحدث لولا وعي الشاعر الحديث، وإدراكه للتحدي الذي يهدد حاضره ومستقبله، بالقدر الذي يهدد وجوده القومي. الأمر الذي جعل موقف الشاعر من الذات، ومن الكون، ومن الزمن ومن الجماعة، موقفا موحدا، تمليه رغبته في الحياة والتجدد والانتصار على كل التحديات، التي يرمز إليها برمز واحد، ذي طابع شمولي، هو رمز الموت الذي يعني موت الذات وموت الزمن( الماضي بكل أمجاده والحاضر بكل تطلعاته) ، والذي يعني تبعا لذلك محو الوجد القومي والإنساني للأمة العربية.
إن الصراع بين الموت والحياة في تجربة الشاعر الحديث يعني في آخر الأمر الصراع بين الحرية والحب والتجدد الذي يجعل الثورة وسيلته، وبين الحقد والاستعباد والنفي من المكان ومن التاريخ."
وعلى الرغم من مضامين الشعر الحديث الثورية، فإنه لم يتحول إلى طاقة تغييرية، بل نلاحظ انفصالا بين الشعر الحديث والجماهير العربية، والسبب في ذلك يعود حسب أحمد المعداوي إلى عامل ديني قومي، وعامل ثقافي، وعامل سياسي، ولكن أهم هذه العوامل حسب الكاتب تعود إلى العامل" المتعلق بتقنية هذا الشعر، أي بالوسائل الفنية المستحدثة التي توسل بها الشعراء، للتعبير عن التجارب التي سبقت الحديث عنها. فلا شك في أن حداثة هذه الوسائل حالت بين الجماهير، وبين تمثل المضامين الثورية لهذا الشعر."
الفصل الرابع: الشكـــــل الجديــــــد
استعمل الشعر الحديث شكلا جديدا يتجلى في استخدام الرموز والأساطير والصور البيانية الانزياحية، كما أن اللغة تختلف من شاعر إلى آخر، فالشعراء العراقيون الذين يمثلهم بدر شاكر السياب يستعملون لغة جزلة وعبارة فخمة وسبكا متينا على غرار الشعر القديم الذي يتميز بالنفس التقليدي كما يظهر ذلك جليا في دواوين السياب القديمة والمتأخرة وخاصة قصيدته "مدينة بلا مطر"، وقصيدة" منزل الأقنان"، بينما هناك من يختار لغة الحديث اليومي كما عند أمل دنقل في ديوانه" البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وهناك من يخلخل اللغة الشعرية النفعية المباشرة ويستعمل لغة انزياحية موحية تنتهك معايير الوضوح والعقل والمنطق كما نجد ذلك عند الشاعر أدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر وصلاح عبد الصبور، وهناك من يشغل اللغة الدرامية المتوترة النابعة من الصوت الداخلي، وهذا الصوت" منبثق من أعماق الذات، ومتجها إليها، خلافا لماهو الأمر عليه لدى الشاعر القديم، الذي امتاز سياقه اللغوي بصدوره عن صوت داخلي يتجه إلى الخارج، وهو في اتجاهه إلى الخارج يأخذ شكل خطاب أو التماس أو دعوة إلى المشاركة والتعاطف، الأمر الذي يمنعه من أن يقيم جدارا بينه وبين العالم الخارجي أثناء المعاناة والتوتر، فهناك دائما شخص آخر يقاسم الشاعر آلامه" ، كما نجد ذلك لدى الشاعر محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته " معزوفة لدرويش متجول".
وعلى مستوى الصورة الشعرية، فقد تجاوز الشاعر الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الإحيائيين، والصور المرتبطة بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير وتوظيف الصورة الرؤيا وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء. ولا ريب أن ولع" الشاعر الحديث بالضرب في بحور المعرفة السبعة ، قد أتاح له أن يجتني المزيد من الصور والرموز، التي تعتبر من أهم الوسائل التي يلجأ إليها الشاعر الحديث للتعبير عن تجاربه الجديدة، ولا ريب في أن الشاعر حين فعل ذلك، وحين وسع مدلول صوره البيانية، أو حدده بربطه بمدلولات سائر الصور في القصيدة الواحدة، أو حين فتح مدلول الصورة الواحدة على آفاق تجربته المختلفة، قد ابتعد كثيرا عن مفهوم الصور البيانية في البلاغة القديمة، وأن هذا البعد قد ساهم مساهمة فعالة في إبعاد تجاربه الشعرية عن ذوق عامة الناس،كما منحهم نوعا من التبرير لوصف شعره بالغموض. ".
ولكن أهم خاصة شكلية يتسم به الشعر الحديث هو تطور الأسس الموسيقية، وإن كان بعض الشعراء المحدثين مازالوا يستعملون الطريقة التقليدية في كتابة قصائدهم كما هو حال البياتي في هذا المقطع المأخوذ من ديوانه" الذي يأتي ولا يأتي":
عديدة أسلاب هذا الليل في المغاره
جماجم الموتى، كتاب أصفر، قيثاره
نقش على الحائط، طير ميت، عباره
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجاره.
بيد أن هناك من الشعراء من نسف عروض الشعر لينتقل إلى عروض القصيدة معتمدا على التفعيلة وتنويعها والتصرف في عددها حسب انفعالات التجربة الشعرية وتوقفها. أي إن التجربة الشعرية الذاتية الداخلية هي التي تستلزم الإيقاع الشعري والوقفة العروضية والنظمية والدلالية عند الشاعر المعاصر.
هذا، وقد التجأ الشاعر الحديث إلى تنويع البحور الشعرية داخل قصيدة واحدة، واستخدام البحور الصافية منها ، وتنويع القوافي والتحرر من القافية الموحدة التي تمتاز بالرتابة والتكرار الممل، ناهيك عن تفتيت وحدة البيت المستقل وتعويضه بالأسطر والجمل الشعرية التي تخضع للنسق الشعوري والفكري.
وشغّل الشاعر الحديث ستة بحور شعرية كالهزج( مفاعيلن)، والرمل( فاعلاتن)، والمتقارب( فعولن)، والمتدارك ( فاعلن)، والرجز( مستفعلن)، والكامل(متفاعلن)، ولقد أصبح " في وسع الشاعر أن يستخلص من البحر الواحد عددا هائلا من الأبنية الموسيقية، التي ربما أغنته عن التفكير في الانصراف من البحر ذي التفعيلة الواحدة إلى غيره. ولقد فطن الشاعر الحديث إلى هذه الخاصة منذ السنوات الأولى لاكتشاف الشكل الجديد، فقد لاحظ الدكتور إحسان عباس في كتابه" عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" الصادر سنة 1955م، أن" في ديوان " أباريق مهشمة" إحدى وأربعين قصيدة، منها ثمان وعشرون تستمد نغماتها من البحر الكامل، ومنها ست على بحر الرمل".
ومن سمات التجربة الجديدة الخلط بين البحور داخل قصيدة واحدة كما عند السياب في قصيدتين من قصائد ديوان" شناشيل ابنة الجلبي"، وأدونيس في قصيدته" مرآة لخالدة" من ديوان" المسرح والمرايا".
ومن " النصفة تقتضي منا – يقول أحمد المعداوي- أن نشير إلى أن الطاقات الموسيقية للبحور المختلطة، بالرغم من أهميتها، لم تستغل على النحو الذي رأيناه عند أدونيس إلا نادرا".
ومن الظواهر التي تم توظيفها في الشعر الحديث التنويع في الزحافات ، وتنويع الأضرب، واستعمال صيغة فاعل في بحر الخبب ، والاتكاء على التدوير والتضمين، وتنويع القوافي حسب النسق الشعوري والفكري مع استخدامها بشكل متراوح أو متعانق أو متراكب أو موحد أو متقاطع أو متراوح.
ويرى أحمد المعداوي في آخر الكتاب أن الحداثة من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض، إلى جانب ما تتطلبه القصيدة الحديثة من إعمال للجهد واستلزام لذوق قرائي جديد، ثم انفصال هذا الشعر عن الجماهير مادام لا ينزل معها إلى ساحة المقاتلة والنضال والصراع ضد قوى الاستغلال والبطش ولا يشاركها في معاركها الحضارية.
د- تقـــــويم الكتـــــــاب:
1- منهجية الكتاب:
ينطلق أحمد المعداوي في هذا الكتاب الجدير بالمدارسة والمتابعة من منهج تاريخي فني ينفتح فيه الكاتب على المناهج الضمنية الأخرى كمنهج التلقي، والمنهج الأسطوري ( دراسته للأساطير) ، والمنهج الاجتماعي.
ويتمثل المنهج التاريخي في تحقيب الشعر العربي زمنيا ( الشعر القديم، والشعر الإحيائي، والشعر الذاتي، والشعر الحديث) من خلال ربطه بالظروف التاريخية كربط الشعر العربي الحديث في القرن العشرين بما عرفه العالم العربي من نكسات ونكبات وحروب وهزائم.
أما المنهج الفني فيكمن في تقسيم الشعر العربي الحديث إلى مدارس شعرية فنية التي حصرها الدارس فيما يلي:
المدرسة الإحيائية المرتبطة بالنموذج التراثي؛
الحركة الرومانسية ذات التوجه الذاتي والتي تنقسم بدورها إلى هذه المدارس الوجدانية: مدرسة الديوان، ومدرسة أپولو، ومدرسة المهجر؛
حركة الشعر الحر أو الشعر الحديث أو الشعر المعاصر.
ويلتجئ أحمد المعداوي إلى منهج التلقي أثناء الحديث عن عزوف القراء عن الاهتمام بالشعر المعاصر أو مايسمى بشعر الحداثة، ويرجع ذلك العزوف والابتعاد إلى هيمنة الغموض في هذا الشعر؛ مما سبب في انفصال كبير بين المرسل والمتلقي، أو بين المبدع والقارئ. ومن الأدلة على وجود هذا المنهج قول الكاتب:" غير أن النصفة تقتضي منا أن نسجل بأن ثمة عدة عوامل حالت بين هذا الشعر وبين أن يصل إلى الجماهير العربية، ليتحول إلى طاقة جبارة، شبيهة بالطاقة التي اعتدنا من الكلمة الصادقة أن تفجرها في كل العصور".
وتتجلى القراءة الاجتماعية في ربط المبدع ببيئته الاجتماعية ووسطه الزمكاني، وربط الإبداع بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي كما يظهر ذلك في حديثه عن تجربة الغربة والضياع التي ربطها بهزيمة العرب في حرب حزيران ناهيك عن النكبات والنكسات التي عاشها العرب منذ 1948م، ومن الشواهد النقدية الاجتماعية على ذلك قول الكاتب:" كانت هزيمة الجيوش العربية سنة 1948 مفاجأة من الأمة لنفسها، وفرصة لمواجهة ذاتها مواجهة صريحة بإعادة النظر في كل مايحيط بها، سواء أكان ثقافة أم سياسة أم علاقات اجتماعية. لم يبق بين الناس، ولا في أنفسهم شيء أو قيمة لم تتجه إليها أصابع التهمة. الحقيقة الوحيدة التي استقرت في كل قلب هي مبدأ الشك، الشك بعلاقة العربي بنفسه وبما حوله، وبماضي أمته وحاضرها، حتى أوشك الشك أن ينال من علاقة العربي بربه. وأمام هذا الإيمان بمبدإ الشك بدأت الأرض تهتز تحت أقدام الوجود العربي التقليدي، ولم تعد له تلك الهيمنة القديمة على أفكار الناس وحريتهم، وبات في وسع العربي الشاعر أن يفتح نفسه للأفكار والفلسفات ، والاتجاهات النقدية في الأدب والشعر، الواردة من وراء البحر،وأن يدعها تمتزج في نفسه وفكره بثقافته القومية، ليستعين بذلك كله على تحليل واقعه ، والوقوف على المتناقضات والملابسات التي تكتنفه، وإدراكها إدراكا موضوعيا تتبدى من خلاله صورة الواقع الحضاري المنشود الذي نريد".
ومن جهة أخرى، ينهج الكاتب منهج الظواهر والقضايا في دراسة الشعر العربي الحديث والمعاصر، ويتضح ذلك جليا في عنوان الكتاب " ظاهرة الشعر الحديث"، وتقسيم الكتاب إلى مجموعة من الفصول الدراسية تتخذ طابع القضايا والظواهر الأدبية تتعلق بالشعر الحديث صياغة ودلالة ( شعر الغربة والضياع، وشعر الموت واليقظة، والشكل الجديد) ، وقد تمثل هذا المنهج في المغرب الأستاذ عباس الجراري في مجموعة من كتبه ، والدكتور محمد الكتاني في كتابه" الصراع بين القديم والجديد". وهذا المنهج استلهمه المغاربة من كتابات أساتذة الأدب في الجامعة المصرية.
ويعرف الدكتور عباس الجراري منهج الظواهر والقضايا بأنه يستعين:" بفكر نقدي يستند إلى الواقع والمعاصرة، وبجدلية وموضوعية تعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية، بعيدا عن أي توثن أو معتقدية متزمتة أو موقف تبريري، إذ في ظني أنه لايمكن فصل المنهج عن المضمون كما أنه لايمكن ممارسة نقد قبلي، أي نقد سابق على المعرفة.
ويقضي محتوى المنهج عندي كذلك أن أنظر إلى تلك القضايا والظواهر من زاوية تعطي الأسبقية للتمثل العقلي على النقد التأثري، أي بنظرة فكرية عقلانية وليس على مجرد التذوق الفني النابع من الإحساس الجمالي والتأثر العاطفي والانفعال الانطباعي بالأثر المدروس. وإن كنت لا أنكر أهمية المنهج الفني وجدواه بالنسبة لنوع معين من الموضوعات، وقد سبق لي أن جربته في بعض الأبحاث، وخاصة في دراسة لي منشورة عن" فنية التعبير في شعر ابن زيدون".
وبهذا يحقق المنهج جملة أهداف، في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من حرارة يحث تحسسها على إدراك ما يتكثف تلك الدلالات من مضامين فكرية، باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا، أو أنه بعد أولى يخفي أبعادا أخرى عميقة. وبذلك تبرز قيمة الإبداع ، وتبرز من خلالها كل الشحنات الشعرية والطاقات الفكرية والمضامين الإنسانية والأبعاد الصراعية سلبا وإيجابا.
كما يحقق المنهج من أهدافه إثبات الوقائع وربطها بالأسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة القريبة والبعيدة، واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها".
ويتبين لنا من كل هذا أن أحمد المعداوي يشغّل في كتابه عدة مناهج نقدية في دراسته الأدبية النقدية تجمع بين الظواهر المضمونية والقضايا الشكلية في إطار رؤية تاريخية اجتماعية فنية يستحضر فيها الكاتب القارئ المتلقي لمعرفة سبب انعدام التواصل بين المبدع المعاصر والمتلقي الرافض للشعر الحداثي.
2- إشكالية المصطلح:
سمى أحمد المعداوي شعر التفعيلة بالشعر الحديث، بيد أن هذا المصطلح يثير بلبلة منهجية ومعرفية، فالمعروف أن العصر الحديث تاريخيا يمتد من 1850م إلى 1950م ليبدأ العصر المعاصر من سنة 1950م إلى يومنا هذا. كما أن هذا المصطلح لايعبر بدقة عن شعر التفعيلة، فقد يضم الشعر الحديث الشعر الرومانسي والشعر الحر والشعر المنثور، ويمكن أن ينسحب على الشعر الكلاسيكي لما لا؟؟! لذا نفضل التسميات التالية: الشعر المعاصر أو شعر التفعيلة آو الشعر الجديد. أما شعر الحداثة فينطبق على شعر التفعيلة كما ينطبق على الشعر المنثور.
ويقول أحمد المعداوي مدافعا عن مصطلحه ( الشعر الحديث) الذي نرفضه جملة وتفصيلا:" هناك عدة اقتراحات لتسمية هذه الحركة الشعرية، منها اقتراح الشاعر صلاح عبد الصبور لتسميتها بالشعر التفعيلي، وهي تسمية غير دقيقة لأنها تستند إلى جانب شكلي، بل إلى جانب جزئي من الشكل هو الوزن. وهناك اقتراح آخر هو تسميتها بالشعر المنطلق، ويؤخذ عليه أن مفهوم الانطلاق قد يعني التحرر من كل قيد، كما أن مفهوم الحرية في قولهم الشعر الحر، قد يعني التحرر من أي التزام، ومن أجل ذلك آثرنا استعمال مصطلح الشعر الحديث تمييزا لهذه الحركة عن التيارات الشعرية الجديدة الأخرى، كتيار أپولو وتيار المهجر وغيرهما...".
إقصاء الشعر المنثور:
إذا كان أحمد المعداوي قد دافع عن الشعر الحداثي الذي يعتمد على الحرية والمثاقفة مع الآداب الأجنبية ويقف بالمرصاد في وجه النقاد المحافظين، فإننا نجده في هذا الكتاب يمارس نفس الدور الذي مارسه الذين انتقدوا الشعر المعاصر التفعيلي، حيث يرفض أحمد المعداوي الشعر المنثور لاعتبارات إيقاعية، لذا، يخرجه بكل سهولة من دائرة الشعر والحداثة، وبذلك يحتكم إلى نفس المقاييس التي احتكم إليها النقاد المحافظون بصفة عامة، يقول أحمد المجاطي:" نخرج من هذا الحكم الأشعار التي أهملت موسيقا العروض العربي، معتمدة على ألوان من الموسيقى الداخلية لاضابط لها،مما يدخل في إطار ما يطلقون عليه " قصيدة النثر"، ونحن لم نتعرض لهذا الاتجاه في الشعر الحديث لثلاثة اعتبارات. (الاعتبار الأول) إهماله للوزن الذي نعتقد أنه شرط أساسي لكل شعر. و(الاعتبار الثاني) التقاؤه مع الشعر الحديث الموزون في الاعتماد على التعبير بالصورة، واللجوء إلى الرمز والأسطورة والسياق اللغوي الجديد.(الاعتبار الثالث) هو انحسار موجة هذا التيار أمام الشعر الحديث الذي يعتمد الوزن الشعري أساسا موسيقيا له".
ولكن ألا يعرف الدارس اليوم أن الشعر التفعيلي قد انتهى دوره واضمحلت مكانته وانتهى عهده ؟! ألم يع بعد بأن هذا الشعر وقف مشدوها عاجزا أمام اكتساح الشعر المنثور لمعظم المنابر الثقافية، وأصبح مطية سهلة لكل الشعراء الصغار والكبار على حد سواء، وصارت الشبكات الرقمية والصحف تنشر كل يوم الكثير من القصائد النثرية فيها الغث والسمين ، ومعها كثر الشعراء حتى أصبح من الصعب إحصاؤهم ، وصار كل إنسان شاعرا بالفطرة يكتب الشعر المنثور ويقول بصوت عال بأنه " شاعر مفلق فحل"؟!
مواضيع وأشكال أخرى:
تناول أحمد المعداوي تجربتين وهما: تجربة الغربة والضياع، وتجربة الموت والتجدد، بينما هناك مواضيع أخرى تناولها الشعر المعاصر لم يناقشها الكاتب بالتفصيل والتمحيص ولم يشر إليها بالدرس والنقد كالتصوف والمقاومة الفلسطينية والنزعة الزنجية والقضايا الإسلامية والمكان والزمان والموت والأسطورة وشعر المدينة والحب والمرأة والنزعة الإنسانية وتيمة الحرب فضلا عن مواضيع سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وحضارية.
كما أغفل من الناحية الفنية القصيدة الكونكريتية والقصيدة الدرامية المركبة والقصيدة القصصية والقصيدة المسرحية وطبيعة التركيب الجملي و خصائص الأسلوب وطبيعة الضمائر في الشعر العربي المعاصر .
التعميـــم في الأحكام:
نلاحظ أن أحمد المعداوي يعمم أحكامه ويسحبها على الظاهرة بأكملها، فعندما يتعامل مع الشعر الرومانسي يعتبره شعرا سلبيا يرتكن إلى الضعف والاستسلام والنكوص والانكماش، بينما نحن نعلم جيدا أن هذا الشعر جمع بين الذاتية والقضايا الوطنية ( قصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي)، والقومية ( نسر لعمر أبي ريشة). ويعني هذا أن ليس كل ما لدى الرومانسيين سلبي، فقد جمعوا بين التعبير عن الهموم الذاتية الفردية بسبب تردي الواقع الذي كان يعيشون فيه، والهموم الثورية من خلال حث الشعوب على الثورة والانتفاض ضد الاستعمار، وديوان أبي القاسم الشابي "أغاني الحياة" و" ديوان الحرية "لعبد الكريم بن ثابت خير دليل على ما نقول.
وما ذهب إليه أحمد المعداوي في حق شعر الذاتيين يمكن أن ينطبق أيضا على شعر الشعراء المحدثين الذين تغنوا بالغربة والضياع فهؤلاء حسب النقاد الاشتراكيين سلبيين يذرفون بكاء الندب والهزيمة، وكان من باب أولى أن يكونوا ثوريين وأن ينزلوا إلى واقع الممارسة لمشاركة القراء في همومهم وآلامهم من أجل تغيير العالم بدلا من تفسيره والبكاء عليه.
وعندما حاكم الدارس الشعراء الإحيائيين ووصفهم بالتقليدية واحتذائهم للنموذج التراثي وملء الذاكرة،فإنه لم يستثن المحاولات التجديدية التي قام بها أحمد شوقي الذي أبدع شعر الأطفال وشعر الفكاهة واللهو وشعر المسرح والنثر المسرحي وشعر الأمثال والقصص، وكانت له أيضا الكثير من القصائد ذات الملامح الرومانسية الوجدانية.
تراجع في الأحكام:
من الغريب جدا أن يسقط الباحث في تناقض كبير كما نجد ذلك عند الباحث الأكاديمي أحمد المعداوي وربما كانت ثمة عوامل ذاتية وموضوعية جعلته يتراجع عن أحكامه النقدية التي ضمنها في كتابه " ظاهرة الشعر الحديث" ، حيث نجد الكاتب في البداية يدافع عن الشعر الحر أو الشعر الحديث عارضا الأدلة والبراهين من أجل إقصاء الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانسي ليسقطه في السلبية والتقليدية والبكائية الذاتية الضعيفة، وكل ذلك من أجل أن يمهد للشعر الحديث الذي جعل منه ميسما للحداثة والتجديد ووسيلة لتغيير الواقع، كما جعله علامة بارزة على التطور والتحول في شعرنا العربي الحديث.
بيد أنه في كتابه الثاني" أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" يقوض كل ما بناه في كتابه الأول، آخذا فأس النقد ليحطم كل مرتكزات الشعر الحديث، ويطعن في كل الرموز الشعرية الكبيرة ليعلن إفلاس الشعر الحديث على نحو ماذهب إليه المفكر الألماني شپبنگلر الذي أعلن إفلاس الحضارة الغربية في كتابه عن بؤس الحضارة. وفي هذا السياق يقول أحمد المعداوي معلنا كساد الشعر الحديث ساخرا بالحداثة الشعرية المعاصرة:" الواقع أن موضوع الحداثة الشعرية العربية موضوع حساس، لأنه يمس صروحا، شعرية ونقدية، شيدها أصحابها منذ زمن، وأقاموا حولها، من المتاريس والعسس، ما يكفي لقمع أي بادرة تتساءل عن مدى صلابة أو هشاشة الأرضية التي شيدت عليها تلك الصروح. وأنا رجل لا أملك صرحا شعريا أخشى عليه من الجهر بالحقيقة، مهما كانت مرة، كما أنني لا أنوي إقامة صرح نقدي على حساب شعراء هذه الحركة ونقادها، وكل ما في الأمر، هو أني بحكم الاحتكاك المتواصل، قراءة وتدريسا وإشرافا على البحوث الجامعية، تكون لدي اقتناع مفاده أن هذه الحركة قد بدأت تدور حول نفسها، في اتجاه الطريق المسدود.
منذ البداية، كنت أعرف أن أذى كبيرا سينالني، من قبل أولئك الذين اعتادوا أن يتاجروا بالترويج لهذه الحركة والنفخ في رموزها. كنت أعرف مثلا أن أقل ما سأرمى به هو السقوط في السلفية، وأن فشلي على صعيد الإبداع الشعري، من حيث نجح غيري نجاها باهرا، هو السبب في توجهي هذه الوجهة الهدامة."
وبعد أن دافع أحمد المعداوي عن شعر الغربة والضياع في الشعر العربي الحديث على الرغم من الانتقادات الموجهة لهذه التجربة البكائية السلبية المتأثرة بالفلسفة الوجودية، نجد الكاتب يتراجع عن حكمه السابق ليوافق ما ذهب إليه النقاد الذين كانوا يعارضون أطروحته سابقا، وفي هذا الصدد يقول أحمد المعداوي:" والخلاصة التي أحب أن أخرج بها من هذا الفصل هي: لقد جرب الشاعر الحديث أن يتكئ، في رسالته الشعرية، على تجارب الآخر( تجربة الغربة- تجربة الحياة والموت) فوصل إلى الطريق المسدود وجرب أن يعتمد على نفسه فوصل إلى الطريق نفسه".
ويتبين لنا من خلال المقارنة بين كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" و"أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، أن كتاب أزمة الحداثة أتى ليقوض ما بناه أحمد المعداوي في كتابه " ظاهرة الشعر الحديث"، كأني بالباحث ينتقم من نفسه ومن الآخرين.
ومن ثم، فكتاباه لم يكونا موضوعيين من الناحية العلمية والأكاديمية، بل خضعا لمعايير شخصية و أهواء ذاتية وإيديولوجية تنم عن محاكمة شخصية وتصفية حساب مع منافسيه بطريقة تضر بالعلم والبحث الموضوعي. ويمكن أن نعتبر كل ماقاله أحمد المجاطي هو نوع من المازوشية وتعذيب للذات بسبب ماكان يعانيه من تهميش وإقصاء ونبذ ومحاصرة وتطويق في المغرب وخارجه من قبل من مجموعة من شعراء الحداثة الذين ساروا في الشعر أشواطا كبيرة لاداعي لذكر أسمائهم في هذه الدراسة المتواضعة.
اللغـــة الواصفــة:
يستعمل أحمد المعداوي في كتابه " ظاهرة الشعر العربي الحديث" لغة بيداغوجية أكاديمية من سماتها: التقرير والمباشرة والبيان البليغ وفصاحة الكلمات واحترام قواعد الإملاء والصرف والنحو. كما تتسم هذه اللغة بقوة الإقناع والحجاج من خلال استعمال أسلوب التعريف وأسلوب الوصف وسرد الوقائع والاستعانة بالمماثلة والمقايسة واللجوء إلى التقويم والحكم وتوظيف آليات الحجاج العقلي والمنطقي كالشرط والافتراض والاستنتاج والاستدلال وإيراد البراهين النقدية والشعرية والشواهد اللغوية والأمثلة المدعمة.
هذا، وتمتاز لغة الكاتب بمواصفات البحث الأكاديمي من خلال تقسيم الكتاب إلى أقسام وفصول ومباحث فرعية متبعا المنهج الاستقرائي تارة والمنهج الاستنباطي تارة أخرى. ويعني هذا إن الوظيفة المهيمنة في الكتاب هي الوظيفة الوصفية التي تتمثل في تبليغ خطابي أدبي نقدي، وتتفرع عنها وظيفة حجاجية إقناعية موجهة إلى القارئ، يروم الباحث من خلالها التأثير على المتلقي وإقناعه إيجابا أو سلبا. وتتسم لغته كذلك بتفاعلها مع اللغة الأدبية واللغة القرآنية واللغة الشعرية ذات الطاقة الإيحائية والشحنة البلاغية.
قيمة الكتاب:
لا أحد يشك في قيمة الكتاب المعرفية والأدبية والنقدية والتاريخية، فلا يمكن أن يستغني عنه طالب أو أستاذ أو باحث مهما كان مستواه العلمي والمعرفي. فالكتاب غني بالمعلومات الأدبية والتاريخية والأسطورية، ودسم بالمادة الشعرية و الحيثيات البيوغرافية المتعلقة بالمبدعين والنقاد.
وكل من يحاول التأريخ للشعر العربي الحديث، ويريد معرفة تحقيبه ومراحل تطوراته ومساره الفني والإيديولوجي، فلابد أن يعود عند هذا الكتاب الرائع الثري بكثير من المعطيات الأدبية والنقدية.
ويمكن القول: إن كتاب أحمد المعداوي" ظاهرة الشعر الحديث" خلاصة اجتهادات لما كتب عن الشعر العربي الحديث و المعاصر في المشرق والمغرب كما لدى محمد مندور، و محمد النويهي، ونازك الملائكة، وإحسان عباس، وناجي علوش، وأدونيس، ومحمد بنيس، وعز الدين إسماعيل، وكمال خير بك ، وريتا عوض، وعبد الله راجع...
ومن ثم، ننصح جميع القراء والكتاب ونقاد الشعر الحديث بضرورة الاطلاع على هذا الكتاب القيم ،على الرغم من هناته وعدم موضوعية أحكامه في الكثير من الأحيان، قصد الاستفادة من معطياته وأطروحاته، ولكن عن وعي وقراءة الخلفيات.
بيد أنه لا ينبغي الاكتفاء بهذا الكتاب فقط، ، بل لابد أن نستعين بالكتاب الثاني الذي أراه مكملا للأول ، كما أنه سفر ضروري يجب الاطلاع عليه ألا وهو كتاب " أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث".
خاتمـــــة:
يتضح لنا، مما سبق، بأن كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد المعداوي كتاب يدافع عن الشعر المعاصر أو الشعر الحديث من خلال مقاربات متداخلة تتكئ على التاريخ والتحليل الفني وملامسة القضايا الواقعية وتجريبية التلقي. بيد أن هذه الدراسة تعتمد على منهج القضايا والظواهر لدراسة الشعر العربي الحديث من حيث المضمون والشكل للبحث عن التحولات والتطورات التي حققها هذا الشعر في تعالقه مع واقعه الموضوعي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا.
وعلى الرغم من قيمة هذا الكتاب من الناحية العلمية والمعرفية والأدبية والتاريخية والنقدية، إلا أنه قد سقط في أحكام تعميمية وخضع لمقاييس ذاتية انطباعية تحت دوافع إيديولوجية ذاتية وشخصية ، والدليل على ذلك تراجع الباحث عن أحكامه النقدية في كتابه" أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" الذي قوض كل النتائج التي توصل إليها الكاتب في كتابه السابق" ظاهرة الشعر الحديث".
وعليه، فنحن نستغرب أيما استغراب لماذا التجأ أحمد المعداوي إلى هذه الطريقة التي دمر فيها كتابه الأول وقوض دعائم رسالته الجامعية ، وشكك في شاعريته وحطم مذهبه الشعري الذي عاش من أجله سنوات وسنوات؟! فهل تحطيمه لرؤوس الحداثة الشعرية والحركة الشعرية المعاصرة في كتابه " أزمة الحداثة" كانت وراءه دوافع شخصية ذاتية أو دوافع سياسية وإيديولوجية، أو أن هذا التراجع عن نتائج الكتاب الأول هو نوع من المصداقية العلمية والاعتراف بالخطإ أو هو نوع من المازوشية والهستيريا الذاتية لتحطيم الذات داخليا أو تحطيم الغير الناجح.